كيف تصنع السعودية نموذجًا ثقافيًا عالميًا من تراثها المحلي؟
الثقافة لم تعد مجرد تقليد أو ماضٍ محفوظ، بل مشروع وطني يعيد تشكيل الحاضر ويبني المستقبل. السعودية تقدم نموذجًا ملهمًا لتمكين الهوية، وتحويل الإبداع إلى اقتصاد، والموروث إلى قوة ناعمة مؤثرة على الساحة العالمية.

تُعد الثقافة من أكثر المفاهيم حضورًا وتداولًا في الخطاب الإنساني، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات أو حتى السياسات الدولية، ومع ذلك فإنها من أكثر المفاهيم إشكاليةً من حيث التعريف والدلالة. فالسؤال البسيط في ظاهره: "ما هو تعريف الثقافة؟" قد يقودنا إلى تفرعات معرفية وفلسفية وتاريخية معقدة، تعكس تعددية الرؤى والمدارس التي تعاملت مع هذا المفهوم عبر العصور.
الثقافة في اللغة
في اللغة العربية، تستمد كلمة "ثقافة" جذورها من الفعل الثلاثي "ثَقُفَ"، والذي يدل على الفطنة وسرعة التعلم والذكاء والمهارة. هذه الجذور اللغوية، على الرغم من بساطتها، تكشف عن أن التصور العربي القديم للثقافة ارتبط بالذهن والعقل والقدرة على الفهم، وليس فقط بالمعرفة المكتسبة. ومع تطور اللغة وتداخلها مع الممارسات الاجتماعية، أصبحت الكلمة تشير إلى التهذيب، والتعلم، والاطلاع، وأخيرًا إلى الهوية المعرفية الجماعية. لكن هذا الفهم اللغوي لا يغني عن الغوص في المعنى الاصطلاحي الذي تشكل عبر قرون من التفكير الفلسفي والاجتماعي والأنثروبولوجي، لا سيما في ظل التوسع الهائل الذي عرفه مفهوم الثقافة في العصر الحديث.
المعنى الاصطلاحي
تعود أقدم المحاولات لتعريف الثقافة بالمعنى الاصطلاحي إلى القرن التاسع عشر، حين قدم إدوارد تايلور، أحد رواد الأنثروبولوجيا، تعريفًا مؤسسًا وصف فيه الثقافة بأنها: "ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعادات، وأي قدرات أخرى يكتسبها الإنسان بوصفه عضوًا في المجتمع."
هذا التعريف، على رغم من بساطته مقارنة بتعقيد الدراسات الثقافية المعاصرة، إلا أنه أسس لقاعدة متينة لفهم الثقافة باعتبارها منظومة حياتية شاملة، لا تقتصر على ما هو "رفيع" أو "راقي" من فنون وآداب، بل تشمل كافة الممارسات اليومية التي يتبناها الإنسان داخل مجتمعه.
مع مرور الزمن، تطور مفهوم الثقافة ليأخذ أبعادًا جديدة، حيث أصبح يُنظر إليها باعتبارها بنية رمزية تنتجها الجماعة البشرية للتعبير عن واقعها وتنظيم حياتها وتأطير سلوكياتها وقيمها. بهذا المعنى، لم تعد الثقافة مجرد تراكم معرفي أو إرث تقليدي، بل أصبحت أداة مركزية في فهم التغير الاجتماعي، والسيطرة الرمزية، وحتى الصراع الطبقي والسياسي.
الثقافة كمفهوم حيّ ومتغير
إذا كانت بعض المفاهيم العلمية تحافظ على ثبات نسبي في دلالاتها، فإن الثقافة بطبيعتها تخضع للتحول المستمر بفعل عوامل متعددة، منها: التغيرات السياسية، والتقدم التكنولوجي، والحراك الاجتماعي، والتفاعلات العابرة للحدود. ولذلك فإن الثقافة لا تُختزل في الماضي، بل تُعاد إنتاجها في الحاضر وتُعاد صياغتها في ضوء المستقبل. هذا التغير يجعل من محاولة تعريف الثقافة تحديًا متجددًا، فهي في ذات اللحظة إطار مرجعي ثابت للقيم والعادات، وفضاء متغير يتجدد بتغير الأزمنة والأجيال. ولهذا السبب يرى العديد من الباحثين أن أي تعريف للثقافة يجب أن يتضمن بُعدها الديناميكي القائم على التفاعل، وليس فقط البُعد الوصفي أو التراثي.
أبعاد الثقافة
لفهم الثقافة بشكل شامل، من الضروري التمييز بين مكوناتها المادية مثل المعمار، اللباس، الطعام، والأدوات، وبين مكوناتها الرمزية مثل اللغة، الدين، القيم، الفنون، العادات، والرموز الجماعية. هذان البعدان لا ينفصلان، فالمادي يعكس الرمزي، والرمزي يمنح المادي معناه. فعلى سبيل المثال، لا يمكننا فهم طريقة تقديم القهوة العربية إلا في ضوء بعدها الرمزي في الثقافة الخليجية، حيث تُجسد قيم الكرم، والاستقبال، والروابط الاجتماعية العميقة. وهكذا فإن الممارسات اليومية، مهما بدت بسيطة، تنطوي على شفرات ثقافية معقدة تمثل البنية الأعمق للثقافة.
الثقافة والهوية
الثقافة ليست مجرد عنصر من عناصر الهوية، بل هي الوعاء الذي تتشكل فيه الهوية الفردية والجماعية. فالإنسان لا يولد وهو يحمل ثقافته، بل يكتسبها تدريجيًا من بيئته، ويتأثر بها، ويعيد إنتاجها في حياته اليومية. ومن هنا تنبع الطبيعة المكتسبة والتراكمية للثقافة، التي تترسخ عبر التنشئة الاجتماعية، والتعليم، واللغة، والطقوس، والمناسبات. كما أن الهوية الوطنية لأي مجتمع لا تُبنى فقط على التاريخ أو الأرض، بل تعتمد بدرجة كبيرة على الثقافة بوصفها أداة لصياغة الشعور بالانتماء وتعزيز التماسك المجتمعي. ولذلك تسعى الدول الحديثة، مثل المملكة العربية السعودية، إلى الاستثمار في الثقافة كأحد محاور قوتها الناعمة، وركيزة أساسية في مشروعها التنموي وهويتها العالمية.
في السياق السعودي
عند الحديث عن الثقافة السعودية، من الخطأ اختزالها في صورة واحدة أو نمط أحادي، فالسعودية بما تحمله من امتداد جغرافي واسع، وتنوع قبلي، وتاريخ ديني وثقافي ثري، تمثل نموذجًا فريدًا للتنوع الثقافي الداخلي، الذي ينسجم ضمن هوية وطنية موحدة. هذا التعدد في التعبيرات الثقافية ـ من الفلكلور الشعبي في الجنوب، إلى الحِرف التقليدية في الحجاز، إلى الشعر النبطي في نجد ـ لا يُعد تعارضًا، بل هو أحد مقومات القوة الثقافية للمجتمع السعودي، وهو ما تعمل وزارة الثقافة في المملكة على إبرازه وتعزيزه من خلال برامجها ومبادراتها الاستراتيجية، ضمن رؤية ثقافية شاملة تنسجم مع رؤية السعودية 2030.خاتمة الجزء الأول
إن الإجابة عن سؤال "ما هو تعريف الثقافة؟" لا يمكن حصرها في سطر أو تعريف قاطع، لأنها ببساطة تعكس الجوهر المتعدد الأبعاد للوجود الإنساني. الثقافة هي الذاكرة، واللغة، والهوية، والممارسة، والمعنى؛ وهي الرابط الخفي الذي يجمع الناس داخل مجتمع واحد، رغم اختلافاتهم، ويوجه سلوكهم الجماعي نحو قيم مشتركة. ولذلك فإن فهم الثقافة ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة لفهم الذات والمجتمع، خاصة في زمن يتقاطع فيه المحلي بالعالمي، وتُعاد فيه صياغة الهويات باستمرار.
تطور مفهوم الثقافة عبر العصور
عندما ننظر إلى الثقافة كإطار لفهم الإنسان وتفاعلاته مع بيئته ومجتمعه، فإننا نكتشف أن هذا المفهوم لم يكن دائمًا بالشكل الذي نعرفه اليوم. بل هو نتاج تاريخ طويل من التغيرات الفكرية والتحولات الاجتماعية، حيث تطور عبر العصور ليتجاوز معناه الأولي المرتبط بالتهذيب أو المعرفة، ويتحول إلى أداة تفسيرية كبرى لفهم المجتمعات البشرية. إن تتبع تطور مفهوم الثقافة لا يُعد مجرد عمل أكاديمي، بل هو مسار ضروري لفهم كيف أصبح لهذا المفهوم دور محوري في السياسات، وفي تشكيل الهوية الوطنية، وفي النقاشات حول الحداثة، والتراث، والتنمية.
الثقافة في المجتمعات القديمة
في المجتمعات القديمة، لم يكن مصطلح "ثقافة" مستخدمًا بالمفهوم المجرد كما هو الحال اليوم. ومع ذلك، كانت الممارسات الثقافية حاضرة بقوة في شكل أعراف، وتقاليد، وطقوس، وقوانين شفوية. فالثقافة، وإن لم تكن مسماة بهذا الاسم، كانت الأساس الذي تنظم عليه القبائل حياتها، وتُفسر من خلاله الظواهر الطبيعية، وتُبنى من خلاله منظومة القيم. في حضارات مثل بلاد الرافدين، ومصر الفرعونية، واليونان، والصين القديمة، كانت الثقافة تُعبر عن نفسها في المعمار، والفنون، والأساطير، والأدب الشفوي، والكتابة، ونظام الحكم. وقد ارتبطت بالمقدس، حيث كانت المعتقدات الدينية تشكل محورًا مركزيًا في صياغة النظرة إلى العالم، وتنظيم الحياة الاجتماعية. رغم غياب المفهوم النظري للثقافة في هذه العصور، إلا أن ما تركته تلك الحضارات من شواهد نصية ومادية، يُظهر أن الإنسان القديم كان واعيًا لقيمة الإرث، ولأهمية تناقل المعرفة، ولضرورة حفظ منظومته السلوكية والاجتماعية عبر الأجيال، وهو ما يُعد أساسًا من أسس الثقافة كما نعرفها اليوم.
الفلسفة اليونانية والرومانية
مع تطور الفلسفة، خصوصًا في اليونان القديمة، بدأ يظهر التفكير النظري في مفاهيم تتصل بالثقافة، وإن لم تُسمَ بهذا الاسم بشكل مباشر. فقد اهتم الفلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو بفكرة "التربية"، "الفضيلة"، و"المدينة الفاضلة"، وهي مفاهيم تنطوي ضمنيًا على رؤية ثقافية للإنسان والمجتمع. في الفكر الروماني، أخذت هذه المفاهيم طابعًا عمليًا أكثر، حيث ارتبطت الثقافة بالفكر القانوني والسياسي، وبدأت تتبلور فكرة أن الإنسان المتعلم، المتحضر، المشارك في الشأن العام، يُمثل نموذجًا لـ"المثقف" أو "المواطن الثقافي". هذا التوجه الفكري، رغم كونه نخبوياً في مجمله، وضع الأساس لفهم لاحق مفاده أن الثقافة ليست فقط ما يُمارس، بل ما يُفكر به، ويُنظّر له، ويُربى عليه.
العصور الوسطى
في العصور الوسطى، وخاصة في أوروبا، أصبحت الثقافة مرتبطة بشكل مباشر باللاهوت والتعليم الكنسي. فقد احتكر رجال الدين المعرفة، وتم ربط الثقافة ارتباطًا وثيقًا بالإيمان والتقوى، مما جعلها حكرًا على طبقة محددة، ومفصولة عن الحياة اليومية لعامة الناس. في المقابل، شهد العالم الإسلامي في نفس الفترة ازدهارًا فكريًا وثقافيًا غير مسبوق، حيث كانت الثقافة تُفهم باعتبارها دمجًا بين الدين والعلم، والفلسفة والفنون، واللغة والسياسة. مراكز مثل بغداد، وقرطبة، والقاهرة، أصبحت حواضن معرفية ساهمت في تشكيل إرث ثقافي عالمي. وقد كان مفهوم الثقافة في الحضارة الإسلامية أقرب إلى الرؤية الشاملة للعلم والمعرفة والعمل الصالح والذوق الرفيع، دون انفصال حاد بين المقدس والدنيوي.
عصر النهضة والأنوار
مع خروج أوروبا من العصور الوسطى ودخولها عصر النهضة، بدأت تتغير ملامح الفكر والثقافة بصورة جذرية. فقد أعيد اكتشاف التراث الإغريقي، وبدأت فكرة التحرر من سلطة الكنيسة تفرض نفسها في مختلف ميادين الحياة، بما في ذلك الفنون، والفكر، والسياسة. في هذه الفترة، بدأت الثقافة تُعرّف كقدرة الإنسان على الإبداع، والتحليل، والتجريب، والنقد. وقد برز فلاسفة مثل فولتير، وروسو، وديدرو، وكانط، الذين ساهموا في بلورة مفاهيم جديدة ترتبط بالحرية الفردية، والعقل، والكرامة الإنسانية، والتي أصبحت بدورها مكونات أساسية للثقافة الغربية الحديثة. لقد أصبح من الممكن في هذه المرحلة الحديث عن الثقافة كمجال مستقل عن الدين والسياسة، وكمصدر للشرعية الأخلاقية والفكرية.
القرن التاسع عشر وبدايات الأنثروبولوجيا
مع تطور العلوم الاجتماعية، بدأت الثقافة تُدرس بشكل منهجي وعلمي. وقد تأسست الأنثروبولوجيا الثقافية كمجال مستقل في أواخر القرن التاسع عشر، وظهر معها لأول مرة مصطلح "الثقافة" بوصفه إطارًا تفسيريًا لفهم سلوكيات الشعوب وتقاليدهم ومعتقداتهم. في هذه المرحلة، بدأ يُنظر إلى كل جماعة بشرية على أنها تمتلك ثقافتها الخاصة، التي لا يمكن تقييمها أو تصنيفها بمعايير ثقافة أخرى. وقد مثل هذا تحولًا جذريًا في الرؤية الغربية، حيث انتقلت من مركزية ثقافية أوروبية تعتبر ثقافتها النموذج الأعلى، إلى نسبية ثقافية تحترم تنوع التعبيرات الإنسانية.
القرن العشرون
شهد القرن العشرون توسعًا كبيرًا في استخدام مفهوم الثقافة، خصوصًا مع ظهور المدارس الفكرية المتنوعة مثل مدرسة فرانكفورت، البنيوية، ما بعد الحداثة، والدراسات الثقافية البريطانية. وقد بدأت هذه المدارس في نقد الثقافة السائدة، والبحث في العلاقة بين الثقافة والسلطة، وبين الثقافة والاقتصاد، وبين الثقافة والهوية. في هذه المرحلة، لم تعد الثقافة تُرى ككيان ثابت، بل كمجال صراع مستمر بين قوى اجتماعية، وكرمز للمقاومة، أو كأداة للهيمنة. كما تم إدماج مفاهيم مثل الثقافة الشعبية، الثقافة الرقمية، الثقافة الفرعية، الثقافة الاستهلاكية، مما جعل الثقافة مفهومًا حيًا، ومفتوحًا على التأويلات.
من خلال هذا المسار التاريخي الغني، يتبين أن الثقافة ليست مجرد ظاهرة اجتماعية، بل هي إنتاج بشري متراكم ومتحول ومتعدد الأبعاد. لقد بدأت كممارسات يومية متوارثة، ثم أصبحت موضوعًا للفلسفة، ثم علمًا اجتماعيًا، ثم ساحة للصراع الرمزي في عالم معولم. فهم هذا التطور ليس فقط ضرورة معرفية، بل هو أساس لقراءة واقعنا الثقافي المعاصر، خاصة في ظل التحولات السريعة التي يشهدها العالم، والدور المتصاعد الذي تلعبه الثقافة السعودية في صياغة هوية وطنية متجددة ومتماهية مع روح العصر.
الثقافة السعودية – الجذور والهوية
في إطار الحديث عن الثقافة وتعريفها وتطورها، تُعد الثقافة السعودية مثالًا حيًّا على قدرة المجتمعات على بناء هوية ثقافية راسخة تنبع من الجذور، لكنها في الوقت ذاته منفتحة على التطوير والتجديد. إن المملكة العربية السعودية لا تملك ثقافة واحدة موحدة بالمعنى الضيق، بل تحمل في داخلها تعددًا ثقافيًا غنيًا ومتناغمًا، يُجسد وحدة وطنية تستوعب الاختلاف، وتحافظ على الأصالة، وتواكب الحداثة.
مكونات الثقافة السعودية
لفهم ملامح الثقافة السعودية، لا بد من التوقف عند العناصر الأساسية التي تشكلها، والتي تندمج لتكوّن ما يمكن وصفه بالهوية الثقافية المتكاملة. هذه العناصر لا تُختزل في العادات والتقاليد فحسب، بل تشمل:
-
الدين الإسلامي: وهو المكوّن الأعمق في الشخصية السعودية، إذ يشكل مرجعية أخلاقية وسلوكية، ويضبط الإيقاع الزمني والاجتماعي للمجتمع، من أوقات الصلاة، إلى الاحتفالات الدينية، إلى القيم اليومية في التعامل بين الناس.
-
اللغة العربية: ليست مجرد وسيلة تواصل، بل حاملة للتراث، وناقلة للقيم، وأداة تعبير عن الهوية. وتأتي اللغة في السعودية بطيف واسع من اللهجات المحلية، التي تختلف من منطقة لأخرى، لكنها جميعًا تتكئ على الفصحى باعتبارها الوعاء الثقافي الأكبر.
-
العادات الاجتماعية: وتشمل الضيافة، اللباس، الزواج، التربية، وأنماط العلاقات الأسرية. رغم أن هذه العادات تختلف نسبيًا من منطقة إلى أخرى، إلا أنها تتشارك في قيم جوهرية مثل الكرم، احترام الكبير، صلة الرحم، والمروءة.
-
الفنون الشعبية: كالشعر النبطي، والرزفة، والعرضة، والسامري، والمجس، وهي تعبيرات جمالية محلية تحمل في طياتها السرد التاريخي، والعاطفة الجمعية، والانتماء للمكان.
-
التراث العمراني: من القصور الطينية في نجد، إلى المباني الحجرية في عسير، إلى البيوت البحرية في جدة، كل منها يُجسد تفاعل الإنسان السعودي مع بيئته وجغرافيته، ويعكس الذوق الفني الخاص بكل منطقة.
التنوع الجغرافي والثقافي
تمتاز المملكة العربية السعودية بمساحتها الجغرافية الواسعة وتنوعها البيئي، ما خلق عبر التاريخ أنماطًا ثقافية متعددة ومتشابكة. فنجد في الجنوب ثقافة زراعية جبليّة ترتكز على القيم الأسرية والترابط المجتمعي، وفي الشمال ثقافة بدوية قائمة على الترحال والشعر والحكاية الشفهية، وفي الحجاز مزيجًا من الثقافات الحضرية الغنية المتأثرة بالحج والتبادل التجاري، بينما تحمل نجد خصوصية لغوية وأدبية عريقة تمثلت في الشعر النبطي والخطابة والسرد التاريخي. هذا التنوع ليس مصدر تشتت، بل هو مصدر ثراء ثقافي يعزز الوحدة الوطنية، حيث تُدرك الدولة والمجتمع أن الثقافة السعودية هي نسيج متكامل من الفروقات التي تخلق هوية شاملة وموحدة، دون أن تذيب الخصوصيات المحلية.
الثقافة السعودية في مواجهة الحداثة
منذ منتصف القرن العشرين، دخلت السعودية في مرحلة متسارعة من التحديث، حيث شهدت تحولات اقتصادية واجتماعية وتقنية واسعة. وكان من الطبيعي أن تطرح هذه المرحلة تحديات ثقافية جديدة، مثل كيفية الحفاظ على القيم والعادات في ظل الانفتاح الإعلامي، والتوسع العمراني، وتغير نمط الحياة. لكن ما يميز التجربة السعودية هو أن الحداثة لم تُفهم بوصفها قطيعة مع الماضي، بل كفرصة لإعادة صياغة الحاضر انطلاقًا من الجذور. فالتعليم، والطب، والفنون، والإعلام، كلها مجالات شهدت تطورًا كبيرًا، دون أن تتخلى عن بعدها الثقافي المحلي.
الثقافة السعودية كقوة ناعمة
خلال العقدين الماضيين، بدأت المملكة تُدرك أن الثقافة ليست فقط إرثًا يجب الحفاظ عليه، بل هي أيضًا أداة استراتيجية في تعزيز مكانتها إقليميًا ودوليًا. ومن هذا المنطلق، أصبحت الثقافة قوة ناعمة تستثمر فيها الدولة، ليس فقط لتعزيز الهوية، بل أيضًا لدعم الاقتصاد، وتحقيق الاستدامة، وفتح آفاق جديدة للشباب. وتجلت هذه الرؤية بشكل واضح في إنشاء وزارة الثقافة السعودية عام 2018، ككيان مستقل يُعنى بوضع السياسات الثقافية، ودعم المشاريع الإبداعية، وتنظيم القطاعات المرتبطة بالفنون، والتراث، والأدب، والسينما، والموسيقى، والمسرح، والمتاحف، والحرف التقليدية، وغيرها. الوزارة لم تكتفِ بحماية الإرث الثقافي، بل انطلقت نحو تحديث المفاهيم الثقافية وتوسيع المشاركة المجتمعية، فطرحت مبادرات نوعية مثل "عام الخط العربي"، "عام القهوة السعودية"، ومهرجانات محلية وعالمية احتضنت المواهب الشابة وعرّفت العالم على عمق وتنوع الثقافة السعودية.
المواطن السعودي والثقافة الجديدة
في ظل هذه التحولات، لم يعد المواطن السعودي مجرد حامل للثقافة التقليدية، بل أصبح شريكًا فاعلًا في صناعتها وإعادة تعريفها. فالشباب اليوم لا يكتفون بتلقي الثقافة، بل ينتجونها عبر منصات التواصل، والفنون الرقمية، والمشاريع الناشئة، والكتابة، والإعلام. وهذا الحضور النشط يعني أن الثقافة السعودية ليست جامدة، بل حيوية وقادرة على التعبير عن ذاتها في مختلف السياقات، محلية كانت أم عالمية.
إن الثقافة السعودية، بما تحمله من تراكم تاريخي، وتنوع جغرافي، وتفاعل مجتمعي، تُعد أحد أبرز النماذج الثقافية في العالم العربي والإسلامي. إنها هوية تنبع من الأرض، وتتشكل من القيم، وتنتقل بين الأجيال، وتفتح أذرعها للمستقبل دون أن تتنكر لجذورها. وفي عالم يتغير بسرعة، تظل الثقافة السعودية مرآة للثبات والتحول معًا، ترسّخ الأصالة، وتبني المعنى، وتصوغ الحضور الوطني في أبهى صوره.
وزارة الثقافة السعودية
عندما نتحدث عن الثقافة بوصفها أداة لصياغة الهوية الوطنية، ومجالًا لإنتاج المعنى، وقوة ناعمة للتأثير العالمي، فإننا لا نتحدث عن مفاهيم مجردة أو طموحات نظرية، بل عن مشروع عملي يتجسد في سياسات ومؤسسات ومبادرات تقودها وزارة الثقافة السعودية، التي باتت خلال سنوات قليلة لاعبًا محوريًا في إعادة تشكيل المشهد الثقافي للمملكة، محليًا ودوليًا، انطلاقًا من رؤية شاملة ترتكز على الأصالة والتجديد.
لماذا أُنشئت وزارة الثقافة؟
تأسست وزارة الثقافة في يونيو 2018، بقرار ملكي أعاد تعريف العلاقة بين الدولة والقطاع الثقافي، حيث كانت المهام الثقافية تندرج سابقًا ضمن مسؤوليات وزارة الإعلام. وقد جاء هذا القرار تماشيًا مع رؤية السعودية 2030، التي تنظر إلى الثقافة باعتبارها إحدى الركائز الثلاث الرئيسية في "برنامج جودة الحياة"، إلى جانب الرياضة والترفيه. الهدف لم يكن فقط تنظيم المشهد الثقافي، بل تحويل الثقافة إلى مجال تنموي قائم بذاته، يسهم في بناء الاقتصاد الوطني، ويدعم المواهب، ويعزز الشعور بالانتماء، ويفتح نوافذ جديدة للتعبير والتواصل والإبداع.
الرؤية والرسالة
تتبنى وزارة الثقافة رؤية طموحة تتلخص في جعل الثقافة نمط حياة، وتحويل المملكة إلى مركز ثقافي عالمي ينبض بالإبداع والتراث والمعاصرة. وهي تسعى لتحقيق هذا الطموح من خلال:
-
تمكين المبدعين والممارسين الثقافيين من العمل بحرية واحترافية.
-
بناء بيئة تنظيمية وتشريعية تضمن نمو واستدامة القطاعات الثقافية.
-
توسيع المشاركة المجتمعية في الأنشطة الثقافية، ليس فقط كمستهلكين بل كمنتجين فاعلين.
-
تعزيز مكانة المملكة عالميًا من خلال التبادل الثقافي والمشاركة في المحافل الدولية.
هذه الرؤية لا تُترجم عبر الشعارات فقط، بل من خلال خطة استراتيجية دقيقة تقوم على تطوير 16 قطاعًا ثقافيًا رئيسيًا، يتضمن كل منها برامج، مبادرات، وتمويلات، ومؤسسات متخصصة.
القطاعات الثقافية
أحد أبرز إنجازات الوزارة هو تقسيمها للمجال الثقافي إلى 16 قطاعًا مستقلًا، يشمل كلٌّ منها منظومة متكاملة من الإنتاج والتنظيم والتطوير. وهذه القطاعات هي:
-
الآداب
-
الأفلام
-
الموسيقى
-
المتاحف
-
المسرح والفنون الأدائية
-
الفنون البصرية
-
العمارة والتصميم
-
التراث
-
الطهي
-
الأزياء
-
الكتب والنشر
-
المكتبات
-
الترجمة
-
اللغة العربية
-
الآثار
-
الحرف اليدوية
كل قطاع يخضع لإشراف هيئة مستقلة أو إدارة متخصصة تعمل على تنظيمه، وتأهيل العاملين فيه، وتطوير البنية التحتية والتشريعات الخاصة به، وتوفير الدعم المادي واللوجستي، إضافة إلى تفعيل البرامج التعليمية والمبادرات المجتمعية ذات الصلة.
المبادرات الكبرى
وزارة الثقافة لم تكتفِ بتقسيم القطاعات، بل أطلقت عددًا من المبادرات النوعية التي أحدثت صدى واسعًا داخل وخارج المملكة، ومن أبرزها:
-
عام الخط العربي (2020–2021): تم فيه الاحتفاء بجمالية الحرف العربي كفن، وشُجع الفنانون والمصممون على إعادة إحيائه في الوسائط المعاصرة.
-
عام القهوة السعودية (2022): كرمز ثقافي وطني، تم خلاله تقديم القهوة كمكون ثقافي جامع بين المناطق، وتنظيم فعاليات ومعارض ومسابقات ومقاهي مبتكرة.
-
مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي: منصة ثقافية بارزة تجمع بين السينما السعودية والعربية والعالمية، وتوفر فرصًا لصنّاع الأفلام والمواهب الناشئة.
-
هيئة التراث ومشروع "مسار التراث الثقافي": الذي يهدف إلى توثيق وتصنيف وتسجيل عناصر التراث المادي وغير المادي، بالتعاون مع "اليونسكو".
-
الابتعاث الثقافي: وهو برنامج مبتكر يتيح للطلاب السعوديين دراسة التخصصات الثقافية والفنية في أعرق الجامعات العالمية، ضمن مسار واضح لإثراء القطاع المحلي بالخبرات.
الثقافة بوصفها اقتصادًا مستقبليًا
لا تقتصر مقاربة الوزارة للثقافة على بعدها الرمزي أو الهوياتي، بل تتعامل معها باعتبارها أحد المحركات المحتملة للاقتصاد الوطني، من خلال ما يُعرف بـ"الصناعات الثقافية والإبداعية"، التي تشمل كل نشاط يعتمد على الإبداع البشري كمصدر أساسي للقيمة. الاستثمار في الثقافة يعني خلق فرص عمل في مجالات غير تقليدية، وتوسيع السوق المحلي للمنتجات والخدمات الثقافية، وجذب السياحة الثقافية، وتحويل المواهب الفردية إلى مشاريع مستدامة. ووفقًا لتقديرات رسمية، فإن القطاعات الثقافية يمكن أن تُسهم بنسبة معتبرة في الناتج المحلي، إذا ما تم دمجها بفاعلية في النظام الاقتصادي العام.
التحديات والمسؤولية المجتمعية
على الرغم من الإنجازات الواضحة، لا تزال أمام المشروع الثقافي السعودي تحديات كبيرة، تتمثل في:
-
ضرورة تغيير النظرة النمطية لبعض الفنون والمجالات الثقافية.
-
الحاجة إلى توسيع القاعدة المجتمعية المشاركة في الثقافة، خاصة في المناطق الأقل حظًا.
-
تحديات التدريب والتأهيل والاحتراف في قطاعات تتطلب مهارات خاصة.
-
بناء جمهور ثقافي مستدام قادر على التفاعل مع المنتج المحلي والعالمي.
وهنا تبرز مسؤولية الأفراد، والمؤسسات التعليمية، والقطاع الخاص، في دعم هذه التحولات، واعتبار الثقافة جزءًا من المسؤولية الوطنية والاجتماعية. إن وزارة الثقافة السعودية تمثل اليوم نقلة نوعية في مفهوم العمل الثقافي المؤسسي، حيث لم تعد الثقافة نشاطًا هامشيًا أو فرديًا، بل مشروعًا وطنيًا يتقاطع مع التنمية، والتعليم، والاقتصاد، والدبلوماسية، والهوية. هذه الوزارة لا تقوم فقط بتنظيم الشأن الثقافي، بل تعمل على إعادة تعريف معنى أن تكون الثقافة جزءًا من حياة الناس اليومية، ومصدرًا للفخر والانتماء، وجسرًا للعبور نحو المستقبل.
الثقافة كمحرك للتنمية في رؤية السعودية 2030
في عالم لم يعد يُقاس تطوره فقط بمؤشرات الاقتصاد التقليدي، بل أيضًا بمدى قدرته على إنتاج المعنى، وتمكين الإنسان، وتعزيز الإبداع، تأتي الثقافة في قلب التحولات الكبرى التي تقودها الدول الطامحة لصياغة مستقبل متوازن بين الأصالة والحداثة. وفي هذا السياق، تُعد رؤية السعودية 2030 نموذجًا رائدًا لدمج الثقافة في قلب المشروع التنموي الوطني، ليس فقط بوصفها مكونًا من مكونات الهوية، بل باعتبارها رأسمالًا رمزيًا واقتصاديًا واجتماعيًا قادرًا على إحداث تغيير عميق في بنية المجتمع والدولة.
أولًا: الثقافة في وثيقة الرؤية – من الهوامش إلى المركز
حين صدرت وثيقة رؤية المملكة 2030 في عام 2016، كان لافتًا حضور الثقافة كأحد محاور "برنامج جودة الحياة"، ما مثّل نقلة مفاهيمية حاسمة في النظرة الرسمية تجاه هذا القطاع. فبعد أن كانت الثقافة تُعامل لسنوات طويلة بوصفها نشاطًا نخبويًا أو مجالًا ترفيهيًا محدود الأثر، أصبحت تُقدَّم اليوم باعتبارها أحد روافد التنمية المستدامة، ومجالًا استراتيجيًا يمكن من خلاله تحقيق عدد من أهداف الرؤية في مجالات:
-
تنمية الاقتصاد غير النفطي
-
خلق الوظائف
-
تنويع مصادر الدخل
-
تحسين جودة الحياة
-
تعزيز الانتماء الوطني
-
بناء صورة عالمية إيجابية عن المملكة
هذه الرؤية الجديدة نقلت الثقافة من حالة رمزية إلى أداة فاعلة في بناء المستقبل، ضمن تصور شامل يربط بين الإنسان، والمكان، والإبداع، والاقتصاد.
الصناعات الثقافية والإبداعية
في الوقت الذي تتجه فيه اقتصادات العالم المتقدم إلى الاعتماد المتزايد على ما يُعرف بـ"الاقتصاد الإبداعي"، تولي المملكة اهتمامًا خاصًا بتطوير الصناعات الثقافية، باعتبارها أحد القطاعات الواعدة التي تجمع بين الطابع الرمزي والمردود الاقتصادي. هذه الصناعات تشمل مجالات متنوعة، من بينها:
-
السينما والإنتاج البصري
-
الموسيقى
-
الفنون التشكيلية
-
النشر والطباعة
-
الأزياء
-
التصميم الجرافيكي والصناعي
-
الحرف اليدوية
-
الطهي والمأكولات التراثية
-
الألعاب الإلكترونية والتفاعلية
وقد بدأنا بالفعل نشهد مؤشرات ملموسة على جدوى هذا التوجه، مع بروز شركات سعودية في مجالات الإنتاج الفني، والموسيقى، والموضة، وصناعة المحتوى، وبدء تصدير منتجات ثقافية سعودية إلى الخارج، بشكل يعكس تحول الثقافة إلى سلعة ذات قيمة اقتصادية وتنافسية عالمية.
الثقافة كمحفز للاستثمار والسياحة
تُعد الثقافة أحد أهم روافد الجذب السياحي والاستثماري، خاصة في بلد غني بالتراث والتنوع مثل المملكة العربية السعودية. فمن خلال مشاريع مثل الدرعية، العلا، جدة التاريخية، والمسار الثقافي في الرياض، تعمل المملكة على تحويل المواقع التاريخية والتراثية إلى مراكز حية تُنتج تجربة ثقافية متكاملة، تجمع بين الماضي والحاضر، وتجذب الزوار من الداخل والخارج. كما أن تطوير البنية التحتية الثقافية، مثل المسارح، ودور السينما، والمتاحف، والمعارض الفنية، والمراكز الإبداعية، لا يُسهم فقط في تحسين جودة الحياة، بل يخلق فرصًا استثمارية في مجالات التصميم، الإدارة، التسويق، السياحة، والتقنية، مما يحول الثقافة من قطاع استهلاكي إلى قطاع إنتاجي مستدام.
الثقافة والهوية الوطنية بين ترسيخ الانتماء وبناء الإنسان
في عالم معولم سريع الإيقاع، تمثل الثقافة أحد أهم أدوات الحفاظ على الهوية الوطنية، وإعادة تعريفها بطريقة منفتحة وقادرة على التفاعل مع التحولات دون فقدان الذات. ومن هنا، فإن دمج الثقافة في رؤية 2030 لا يهدف فقط إلى دعم الاقتصاد، بل أيضًا إلى تعزيز الوعي المجتمعي، وترسيخ الانتماء، وبناء شخصية سعودية واثقة، فاعلة، ومتصالحة مع جذورها وتطلعاتها. هذا الهدف يظهر جليًا في المبادرات التي تدعم اللغة العربية، والفنون الشعبية، والفلكلور، وفي برامج الابتعاث الثقافي التي تُمكِّن الشباب من الدراسة في أرقى الجامعات، ليعودوا حاملين أدوات المعرفة العالمية، دون أن يتنكروا لهويتهم المحلية.
تلعب الثقافة في رؤية 2030 دورًا مركزيًا في تمكين الأفراد والمجتمعات، من خلال توفير فرص للمشاركة الفاعلة، والتعبير الحر، والتطوير الذاتي. فالشباب، والنساء، والأشخاص ذوو الإعاقة، وسكان المناطق الأقل نموًا، باتت أمامهم مساحات جديدة للتعبير، ومجالات غير تقليدية للابتكار، ومسارات مهنية لم تكن متاحة سابقًا. وقد ساهمت مبادرات وزارة الثقافة، مثل برنامج "الابتعاث الثقافي"، و"الجوائز الوطنية الثقافية"، و"مراكز الإبداع"، و"المواسم الثقافية"، في تحويل الإبداع من استثناء إلى ممارسة اجتماعية واسعة النطاق.
إن رؤية السعودية 2030 لا تنظر إلى الثقافة كديكور حضاري أو مجال رمزي، بل كـأحد محركات التنمية الشاملة، ورافعة استراتيجية لبناء الإنسان، وتعزيز الاقتصاد، وتشكيل الصورة الذهنية الإيجابية عن المملكة في الداخل والخارج. الثقافة هنا ليست ماضٍ محفوظ فقط، بل مستقبل يُصنع بأيدي أبناء هذا الوطن، بروح تنتمي للأرض وتنفتح على العالم.
حماية الثقافة السعودية
في خضم التغيرات المتسارعة التي يعيشها العالم اليوم على كافة المستويات، تواجه الثقافات المحلية تحديات غير مسبوقة، تتعلق بالعولمة الرقمية، واختراق أنماط الحياة الاستهلاكية، وتحولات الذوق العام، وتسارع انتقال الأجيال. وفي هذا السياق، لا يمكن الحديث عن نهضة ثقافية حقيقية دون وجود استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى حماية الثقافة، وتوثيقها، ونقلها، وتجديدها في آنٍ واحد. وتُعد الثقافة السعودية من النماذج التي تقدم توازنًا دقيقًا بين حفظ الموروث والانفتاح على العالم، وهو توازن لا يمكن تحقيقه دون وعي مؤسسي ومجتمعي بالرهانات والتحديات، ودون خطة مدروسة لضمان استدامة الهوية الثقافية وعدم انزلاقها إلى التآكل أو التكرار أو الجمود.
أولًا: التحديات الكبرى أمام الثقافة المحلية
رغم أن المملكة تمتلك إرثًا ثقافيًا ثريًا وتنوعًا هائلًا بين مناطقها، إلا أن ثقافتها ليست في مأمن من التهديدات المرتبطة بالتحول الرقمي والعالمي، ومن أبرز هذه التحديات:
-
الاندثار التدريجي للموروث غير المادي
مثل الحكايات الشفهية، والأمثال الشعبية، والفنون التقليدية، واللهجات المحلية، والتي أصبحت مهددة بسبب ضعف التوثيق وتراجع الممارسين الأصليين. -
العزوف عن الحرف التقليدية والمهن التراثية
بسبب طغيان المنتجات الصناعية السريعة، وتحول الذائقة نحو المعايير الغربية في الموضة والتصميم. -
فقدان التواصل بين الأجيال
حيث تنشأ أجيال جديدة تتلقى ثقافتها من المنصات الرقمية والعالم المفتوح، دون أن تمتلك بالضرورة أدوات قراءة ثقافتها الأصلية أو ارتباطًا وجدانيًا بها. -
الخلط بين الحداثة والتغريب
إذ قد يُساء فهم التجديد الثقافي بوصفه قطيعة مع التراث، ما يؤدي إلى نزعة إقصاء الموروث بدلاً من تطويره. -
التشابه المتزايد في الممارسات الثقافية بين الشعوب
بفعل العولمة، مما يُعرض الثقافة السعودية لخطر فقدان تفردها وسط النمط العالمي السائد.
الرؤية السعودية لحماية الثقافة
استوعبت وزارة الثقافة السعودية، بدعم من القيادة، خطورة هذه التحديات، ولهذا تبنت خطة متكاملة تستهدف ليس فقط حفظ الثقافة، بل نقلها وتحديثها وتحويلها إلى ممارسة يومية ومصدر فخر واستثمار. ويمكن تلخيص أبرز عناصر هذه الرؤية في المحاور التالية:
1. التوثيق والرقمنة
من خلال مشاريع ضخمة مثل "التراث الثقافي غير المادي"، و"منصة الثقافة الرقمية"، يجري العمل على حفظ أكبر قدر ممكن من الفنون، والأمثال، والحكايات، والمأكولات، والأزياء، والأهازيج الشعبية، عبر تسجيلها وتوثيقها رقميًا، لضمان توفرها للأجيال القادمة وللباحثين والمؤسسات التعليمية.
2. الاعتراف الدولي بالتراث السعودي
قامت المملكة بتسجيل العديد من عناصرها الثقافية ضمن قائمة اليونسكو للتراث الإنساني غير المادي، مثل:
-
العرضة النجدية
-
القهوة السعودية
-
الخط العربي
-
النخلة ومنتجاتها
-
الصقارة
-
المجالس
-
السدو
وغيرها من العناصر التي تُسهم في تعزيز مكانة الثقافة السعودية عالميًا، وتحفيز المجتمع على التمسك بها.
3. التحفيز الاقتصادي للممارسات الثقافية
من خلال دعم الحرفيين، والفنانين الشعبيين، والمصممين المحليين، وربط التراث بالمنتجات المعاصرة، أصبحت الثقافة مصدر دخل وفرصة عمل حقيقية، ما شجع الكثير من الشباب على العودة إلى الجذور بمشاريع إبداعية تمزج بين الحداثة والأصالة.
4. التعليم والتوعية الثقافية
أُدرجت موضوعات التراث والثقافة المحلية ضمن المناهج التعليمية، كما أُطلقت برامج مدرسية وجامعية تُعنى بالهوية الوطنية، واللغة العربية، والفنون السعودية. كما تُنظم ورش وفعاليات تستهدف فئة الأطفال والناشئة، لغرس العلاقة مع الثقافة منذ الصغر.
5. المشاركة المجتمعية في الإنتاج الثقافي
بفضل برامج مثل "عام القهوة"، و"موسم الرياض"، و"القرية التراثية"، أصبح المجتمع لا يكتفي بدور المتفرج، بل يشارك في إنتاج الثقافة، سواء من خلال الفعاليات، أو المبادرات المحلية، أو المشاريع الناشئة، ما يعزز الإحساس بالملكية الثقافية والانتماء.
ثالثًا: التوازن بين الحفظ والتجديد – فلسفة الاستدامة الثقافية
الحفاظ على الثقافة لا يعني تجميدها، تمامًا كما أن تجديدها لا يعني تشويهها أو استبدالها. ولهذا، تسير السياسة الثقافية في المملكة ضمن فلسفة "الاستدامة الثقافية"، أي إبقاء الثقافة حية وفاعلة عبر الأجيال، من خلال:
-
إعادة إحياء العناصر المهددة بالاندثار عبر الفن المعاصر
-
ربط التراث بالابتكار في التصميم، والتكنولوجيا، والتسويق
-
بناء جيل واعٍ بالتراث، لكنه منفتح على التعبير المعاصر عنه
-
خلق حوار متوازن بين ما هو محلي وما هو عالمي
هذه الفلسفة تنطلق من قناعة مفادها أن الثقافة السعودية ليست قطعة محفوظة في المتحف، بل كيان حي يتطور دون أن يفقد جوهره. من خلال هذا المقال ، أصبح واضحًا أن الثقافة ليست رفاهية فكرية أو ملحقًا تراثيًا، بل هي روح المجتمع، ومصدر قوته، ومرآة تطلعاته. والثقافة السعودية، بجذورها الضاربة في الأرض، وتنوعها الغني، وانفتاحها المتزن على العصر، تمثل اليوم نموذجًا لهوية متجددة تُبنى على الفخر بالماضي، والوعي بالحاضر، والثقة بالمستقبل. وما تُنجزه المملكة اليوم على الصعيد الثقافي، من خلال وزارة الثقافة ورؤية 2030، هو رواية وطنية جديدة تُكتب بحروف الإبداع والوعي والانتماء، تضع الثقافة في صميم النهضة، وتحولها من منتج متحفي إلى مشروع وطني شامل.